السبت، 11 مايو 2013

تفسير سورة القدر وهي مكيه


-->
-->


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( 1 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ( 2 ) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ( 3 ) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ( 4 ) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( 5 ) )

يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) [ الدُّخَانِ : 3 ] وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، وَهِيَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) [ الْبَقَرَةِ : 185 ] .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَزَلَ مُفَصَّلًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُعَظِّمًا لِشَأْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، الَّتِي اخْتَصَّهَا بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِيهَا ، فَقَالَ : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ )

قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَامَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ : سَوَّدْتَ وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ - أَوْ : يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ - فَقَالَ : لَا تُؤَنِّبْنِي ، رَحِمَكَ اللَّهُ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ ، وَنَزَلَتْ : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يَمْلِكُهَا بَعْدَكَ بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ . قَالَ الْقَاسِمُ : فَعَدَدْنَا فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ ، لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا .

ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ ، وَهُوَ ثِقَةٌ وَثَّقَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ . قَالَ : وَشَيْخُهُ يُوسُفُ بْنُ سَعْدٍ - وَيُقَالُ : يُوسُفُ بْنُ مَازِنَ - رَجُلٌ مَجْهُولٌ ، وَلَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ ، عَلَى هَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ [ ص: 442 ] مَازِنَ بِهِ . وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ : إِنَّ يُوسُفَ هَذَا مَجْهُولٌ - فِيهِ نَظَرٌ ; فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ ، مِنْهُمْ : حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ . وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : هُوَ مَشْهُورٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ [ قَالَ ] هُوَ ثِقَةٌ . وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَازِنَ ، كَذَا قَالَ ، وَهَذَا يَقْتَضِي اضْطِرَابًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مُنْكَرٌ جِدًّا ، قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْحُجَّةُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ : هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ .

قُلْتُ : وَقَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيِّ إِنَّهُ حَسَبَ مُدَّةَ بَنِي أُمَيَّةَ فَوَجَدَهَا أَلْفَ شَهْرٍ لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ ; فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، اسْتَقَلَّ بِالْمُلْكِ حِينَ سَلَّمَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْإِمْرَةَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ ، وَاجْتَمَعَتِ الْبَيْعَةُ لِمُعَاوِيَةَ وَسُمِّيَ ذَلِكَ عَامَ الْجَمَاعَةِ ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا فِيهَا مُتَتَابِعِينَ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا ، لَمْ تَخْرُجْ عَنْهُمْ إِلَّا مُدَّةَ دَوْلَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْحَرَمَيْنِ وَالْأَهْوَازِ وَبَعْضِ الْبِلَادِ قَرِيبًا مِنْ تِسْعِ سِنِينَ ، لَكِنْ لَمْ تَزُلْ يَدُهُمْ عَنِ الْإِمْرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، بَلْ عَنْ بَعْضِ الْبِلَادِ ، إِلَى أَنِ اسْتَلَبَهُمْ بَنُو الْعَبَّاسِ الْخِلَافَةَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ مُدَّتِهِمُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً ، وَذَلِكَ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، فَإِنَّ الْأَلْفَ شَهْرٍ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَكَأَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ الْفَضْلِ أَسْقَطَ مِنْ مُدَّتِهِمْ أَيَّامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَلَى هَذَا فَتَقَارَبَ مَا قَالَهُ لِلصِّحَّةَ فِي الْحِسَابِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ سِيقَ لِذَمِّ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا السِّيَاقِ ; فَإِنَّ تَفْضِيلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَيَّامِهِمْ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ أَيَّامِهِمْ ، فَإِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ شَرِيفَةٌ جِدًّا ، وَالسُّورَةُ الْكَرِيمَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَدْحِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَكَيْفَ تُمْدَحُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ الَّتِي هِيَ مَذْمُومَةٌ ، بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :


أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ إِذَا قِيلَ إِنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ الْعَصَا


وَقَالَ آخَرُ :


إِذَا أَنْتَ فَضَّلْتَ امْرَأً ذَا بَرَاعَةٍ     عَلَى نَاقِصٍ كَانَ الْمَدِيحُ مِنَ النَّقْصِ


ثُمَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ وِلَايَةِ الْأَلْفِ شَهْرٍ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ هِيَ أَيَّامُ بَنِي أُمَيَّةَ ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةُ ، فَكَيْفَ يُحَالُ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ هِيَ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُ الْآيَةِ وَلَا مَعْنَاهَا ؟! وَالْمِنْبَرُ إِنَّمَا صُنِعَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ ، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَكَارَتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ - يَعْنِي ابْنَ خَالِدٍ - ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَبِسَ السِّلَاحَ فِي [ ص: 443 ] سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ ، قَالَ : فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) الَّتِي لَبِسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ .

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَاحِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ ، ثُمَّ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ بِالنَّهَارِ حَتَّى يُمْسِيَ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ : ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : أَخْبَرَنَا يُونُسُ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، حَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ‌ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا ، لَمْ يَعْصَوْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ : فَذَكَرَ أَيُّوبَ وَزَكَرِيَّا وَحَزْقِيلَ بْنَ الْعَجُوزِ وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ - قَالَ : فَعَجِبَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ عَجِبَتْ أُمَّتُكَ مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ ثَمَانِينَ سَنَةً ، لَمْ يَعْصُوْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ; فَقَدَ أَنْزَلَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ . فَقَرَأَ عَلَيْهِ : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) هَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبْتَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ . قَالَ : فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ .

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . قَالَ : عَمَلُهَا ، صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، لَيْسَ فِي تِلْكَ الشُّهُورِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ . وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ .

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ : عَمَلٌ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ .

وَهَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ - وَلَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ - هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ . وَهُوَ الصَّوَابُ لَا مَا عَدَاهُ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رِبَاطُ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ " . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَكَمَا جَاءَ فِي قَاصِدِ الْجُمُعَةِ بِهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ ، وَنِيَّةٍ صَالِحَةٍ : " أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ عَمَلُ سَنَةٍ ، أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُشَابِهَةِ لِذَلِكَ .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ ، شَهَرٌ مُبَارَكٌ ، افْتَرَضَ اللَّهُ [ ص: 444 ] عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ " .

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ بِهِ .

وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَعْدِلُ عِبَادَتُهَا عِبَادَةَ أَلْفِ شَهْرٍ ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .

وَقَوْلُهُ : ( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) أَيْ : يَكْثُرُ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا ، وَالْمَلَائِكَةُ يَتَنَزَّلُونَ مَعَ تَنَزُّلِ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ ، كَمَا يَتَنَزَّلُونَ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيُحِيطُونَ بِحِلَقِ الذِّكْرِ ، وَيَضَعُونَ أَجْنِحَتَهُمْ لِطَالِبِ الْعِلْمِ بِصِدْقٍ تَعْظِيمًا لَهُ .

وَأَمَّا الرُّوحُ فَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ . وَقِيلَ : هُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ . كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ " النَّبَأِ " . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ : ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) قَالَ مُجَاهِدٌ : سَلَامُ هِيَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ .

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : ( سَلَامٌ هِيَ ) قَالَ : هِيَ سَالِمَةٌ ، لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا أَوْ يَعْمَلَ فِيهَا أَذًى .

وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ : تُقْضَى فِيهَا الْأُمُورُ ، وَتُقَدَّرُ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )

وَقَوْلُهُ : ( سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) قَالَ : تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَسَاجِدِ ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ .

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ : " مِنْ كُلِّ امْرِئٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ " .

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ " فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ " عَنْ عَلِيٍّ أَثَرًا غَرِيبًا فِي نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ ، وَمُرُورِهِمْ عَلَى الْمُصَلِّينَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، وَحُصُولِ الْبَرَكَةِ لِلْمُصَلِّينَ .

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا مُطَوَّلًا جِدًّا ، فِي تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى صُحْبَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ ، وَدُعَائِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ .

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : حَدَّثَنَا عِمْرَانُ - يَعْنِي الْقَطَّانَ - ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : " إِنَّهَا لَيْلَةٌ سَابِعَةٍ - أَوْ : تَاسِعَةٍ - وَعِشْرِينَ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى " .

[ ص: 445 ]

وَقَالَ الْأَعْمَشُ ، عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِي قَوْلِهِ : ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ ) قَالَ : لَا يَحْدُثُ فِيهَا أَمْرٌ .

وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ : ( سَلَامٌ هِيَ ) يَعْنِي هِيَ خَيْرٌ كُلُّهَا ، لَيْسَ فِيهَا شَرٌّ إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :

حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ ، حَدَّثَنِي بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي ، مَنْ قَامَهُنَّ ابْتِغَاءَ حِسْبَتِهِنَّ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، وَهِيَ لَيْلَةٌ وِتْرٍ : تِسْعٍ أَوْ سَبْعٍ ، أَوْ خَامِسَةٍ ، أَوْ ثَالِثَةٍ ، أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ " . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا ، سَاكِنَةٌ سَجِيَّةٌ ، لَا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ ، وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ . وَأَنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً ، لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ " .

وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ ، وَفِي الْمَتْنِ غَرَابَةٌ ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ .

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ ، حَدَّثَنَا زَمْعَةُ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : " لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ ، لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ ، وَتُصْبِحُ شَمْسُ صَبِيحَتِهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ " .

وَرَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَأُنْسِيتُهَا ، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، مِنْ لَيَالِيهَا لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ بِلُجَةٌ ، لَا حَارَةً وَلَا بَارِدَةٌ ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا ، لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا " .

فَصْلٌ

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ، أَوْ هِيَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :

قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّهْرِيُّ : حَدَّثَنَا مَالِكٌ : أَنَّهُ بَلَغَهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِي أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ - أَوْ : مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ - فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارُ أُمَّتِهِ أَلَّا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وَقَدْ أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . [ ص: 446 ] وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ " الْعُدَّةِ " أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَحَكَى الْخَطَابِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ [ وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ جَازِمًا بِهِ عَنِ الْمَذْهَبِ ] وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِينَ كَمَا هِيَ فِي أُمَّتِنَا .

قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ : حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ : حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنِي مَرْثَدٌ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ : كَيْفَ سَأَلْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ؟ قَالَ : أَنَا كُنْتُ أَسْأَلُ النَّاسَ عَنْهَا ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، أَفِي رَمَضَانَ هِيَ أَوْ فِي غَيْرِهِ ؟ قَالَ : " بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ " . قُلْتُ : تَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا ، فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ ؟ أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : " بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " . قُلْتُ : فِي أَيِّ رَمَضَانَ هِيَ ؟ قَالَ : " الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ ، وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ " . ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَ ، ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ قُلْتُ : فِي أَيَّ الْعَشْرَيْنِ هِيَ ؟ قَالَ : " ابْتَغَوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا " . ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ ؟ فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ مُنْذُ صَحِبْتُهُ ، وَقَالَ : " الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا " .

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ ، عَنِ الْفَلَّاسِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بِهِ .

فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَّرْنَاهُ ، وَفِيهِ أَنَّهَا تَكُونُ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ [ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] لَا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ طَوَائِفِ الشِّيعَةِ مَنْ رَفْعِهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، عَلَى مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي سَنُورِدُهُ بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ : " فَرُفِعَتْ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ " ; لِأَنَّ الْمُرَادَ رُفِعُ عِلْمُ وَقْتِهَا عَيْنًا . وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَخْتَصُّ وُقُوعُهَا بِشَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّهُورِ ، لَا كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، مِنْ أَنَّهَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ، وَتُرْجَى فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ عَلَى السَّوَاءِ .

وَقَدْ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَلَى هَذَا فَقَالَ : " بَابُ بَيَانِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ " : حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ النَّسَائِيُّ ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَقَالَ : " هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ " .

وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَالَ : رَوَاهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَأَوْقَفَاهُ .

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، رِوَايَةٌ أَنَّهَا تُرْجَى فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَهُوَ وَجْهٌ [ حَكَاهُ ] الْغَزَالِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ الرَّافِعِيُّ جِدًّا .

[ ص: 447 ]

فَصْلٌ

ثُمَّ قَدْ قِيلَ : إِنَّهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، يُحْكَى هَذَا عَنْ أَبِي رَزِينٍ . وَقِيلَ : إِنَّهَا تَقَعُ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ . وَرَوَى فِيهِ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، وَعَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ .

وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ ، وَيُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ . وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهَا لَيْلَةُ بَدْرٍ ، وَكَانَتْ لَيْلَةُ جُمُعَةٍ هِيَ السَّابِعَةَ عَشْرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَفِي صَبِيحَتِهَا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : ( يَوْمَ الْفُرْقَانِ ) [ الْأَنْفَالِ : 41 ] .

وَقِيلَ : لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ ، يُحْكَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . .

وَقِيلَ : لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ; لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ فِي ] الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ . فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : [ إِنَّ ] الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ . ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ ، فَقَالَ : " مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَرْجِعْ ، فَإِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، وَإِنِّي أُنْسِيتُهَا ، وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَفِي وِتْرٍ ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ " . وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدًا مِنَ النَّخْلِ ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا ، فَجَاءَتْ قَزَعَةٌ فَمُطِرْنَا ، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ . وَفِي لَفْظٍ : " فِي صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ .

قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ .

وَقِيلَ : لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ; لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَهُوَ قَرِيبُ السِّيَاقِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقِيلَ : لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ; أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ " إِسْنَادُهُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ .

وَقَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ ، عَنْ بِلَالٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ " .

[ ص: 448 ]

ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ . وَقَدْ خَالَفَهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، عَنْ أَصْبَغَ ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنِي بِلَالٌ - مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا أَوَّلُ السَّبْعِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَالْحُسْنِ وَقَتَادَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ : أَنَّهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " حَدِيثُ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ مَرْفُوعًا : " إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ " .

وَقِيلَ : تَكُونُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ; لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى ، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى ، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى " . فَسَّرَهُ كَثِيرُونَ بِلَيَالِي الْأَوْتَارِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ . وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى الْأَشْفَاعِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقِيلَ : إِنَّهَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ; لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ " .

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ : سَمِعْتُ عَبْدَةَ وَعَاصِمًا عَنْ زِرٍّ : سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ : أَبَا الْمُنْذِرِ ، إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ : مَنْ يُقِمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ . قَالَ : يَرْحَمُهُ اللَّهُ ، لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ . ثُمَّ حَلَفَ . قُلْتُ : وَكَيْفَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : بِالْعَلَامَةِ - أَوْ : بِالْآيَةِ - الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا ، تَطْلُعُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا شُعَاعَ لَهَا ، أَعْنِي الشَّمْسَ .

وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَشُعْبَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ عَبْدَةَ ، عَنْ زِرٍّ عَنْ أَبِي فَذَكَرَهُ ، وَفِيهِ : فَقَالَ : وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ - يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي - وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا ، هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا .

وَفِي الْبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ . وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ ، وَهُوَ الْجَادَّةُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ حَاوَلَ اسْتِخْرَاجَ كَوْنِهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْقُرْآنِ ، مِنْ قَوْلِهِ : ( هِيَ ) لِأَنَّهَا الْكَلِمَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنَ السُّورَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ قَتَادَةَ وَعَاصِمٍ : أَنَّهُمَا سَمِعَا عِكْرِمَةَ يَقُولُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ [ ص: 449 ] أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَقُلْتُ لِعُمَرَ : إِنِّي لَأَعْلَمُ - أَوْ : إِنِّي لَأَظُنُّ - أَيَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ ؟ [ فَقُلْتُ ] سَابِعَةٌ تَمْضِي - أَوْ : سَابِعَةٌ تَبْقَى - مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ . فَقَالَ عُمَرُ : وَمَنْ أَيْنَ عَلِمْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَقُلْتُ : خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ، وَسَبْعَ أَرْضِينَ ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَإِنَّ الشَّهْرَ يَدُورُ عَلَى سَبْعٍ ، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ سَبْعٍ ، وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ ، وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعٍ ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ سَبْعٌ ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ سَبْعٌ . . . لِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا . فَقَالَ عُمَرُ : لَقَدْ فَطِنْتَ لِأَمْرٍ مَا فَطِنَّا لَهُ . وَكَانَ قَتَادَةُ يَزِيدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ ، قَالَ : هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ( فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا [ وَقَضْبًا ] ) الْآيَةَ [ عَبَسَ : 27 ، 28 ] .

وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ ، وَنصٌ غَرِيبٌ جِدًّا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقِيلَ : إِنَّهَا تَكُونُ فِي لَيْلَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ :

حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي رَمَضَانَ ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فَإِنَّهَا فِي وَتْرِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ، أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ، أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، [ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ ] أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ - وَهُوَ : أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ - ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : " إِنَّهَا لَيْلَةُ سَابِعَةٍ أَوْ تَاسِعَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى " .

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ .

وَقِيلَ : إِنَّهَا تَكُونُ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ آنِفًا ، وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي بَكَرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ ، أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ ، أَوْ خَمْسٍ يَبْقَيْنَ ، أَوْ ثَلَاثٍ ، أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ " . يَعْنِي : الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ .

[ ص: 450 ]

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : " إِنَّهَا آخِرُ لَيْلَةٍ " .

فَصْلٌ

قَالَ [ الْإِمَامُ ] الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ : صَدَرَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا لِلسَّائِلِ إِذْ قِيلَ لَهُ : أَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ ؟ يَقُولُ : " نَعَمْ " . وَإِنَّمَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ : لَا تَنْتَقِلُ . نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ .

وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَالْمُزَنِيُّ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ ، وَغَيْرُهُمْ . وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْهُ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ " .

وَفِيهَا أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ " وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ .

وَيُحْتَجُّ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ ، وَأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ مِنَ الشَّهْرِ ، بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مَنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : " خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ ، فَرُفِعَتْ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ " .

وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ : أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً مُسْتَمِرَّةَ التَّعْيِينِ ، لَمَا حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِعَيْنِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ ، إِذًا لَوْ كَانَتْ تَنْتَقِلُ لَمَا عَلِمُوا تَعْيِنَهَا إِلَّا ذَلِكَ الْعَامِ فَقَطْ ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ لِيُعْلِمَهُمْ بِهَا تِلْكَ السَّنَةَ فَقَطْ .

وَقَوْلُهُ : " فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ " : فِيهِ اسْتِئْنَاسٌ لِمَا يُقَالُ : إِنَّ الْمُمَارَاةَ تَقْطَعُ الْفَائِدَةَ وَالْعِلْمَ النَّافِعَ ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " إِنَّ الْعَبْدَ لِيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ " .

وَقَوْلُهُ : " فَرُفِعَتْ " أَيْ : رُفِعَ عِلْمُ تَعْيِنِهَا لَكُمْ ، لَا أَنَّهَا رُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوُجُودِ ، كَمَا يَقُولُهُ [ ص: 451 ] جَهَلَةُ الشِّيعَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا : " فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ " .

وَقَوْلُهُ : " وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ " يَعْنِي : عَدَمُ تَعْيِينِهَا لَكُمْ ، فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُبْهَمَةً اجْتَهَدْ طُلَّابُهَا فِي ابْتِغَائِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّ رَجَائِهَا ، فَكَانَ أَكْثَرَ لِلْعِبَادَةِ ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمُوا عَيْنَهَا فَإِنَّهَا كَانَتِ الْهِمَمُ تَتَقَاصَرُ عَلَى قِيَامِهَا فَقَطْ . وَإِنَّمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِبْهَامَهَا لِتَعُمَّ الْعِبَادَةُ جَمِيعَ الشَّهْرِ فِي ابْتِغَائِهَا ، وَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ أَكْثَرَ . وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ . أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ .

وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ .

وَقَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ ، أَحْيَا اللَّيْلَ ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ . أَخْرَجَاهُ .

وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ .

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهَا : " وَشَدَّ الْمِئْزَرَ " . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ : اعْتِزَالُ النِّسَاءِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرَيْنِ ، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :

حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَقِيَ عَشْرٌ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ ، وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ . انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ .

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّ جَمِيعَ لَيَالِي الْعَشْرِ فِي تَطَلُّبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى السَّوَاءِ ، لَا يَتَرَجَّحُ مِنْهَا لَيْلَةٌ عَلَى أُخْرَى : رَأَيْتُهُ فِي شَرْحِ الرَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَالْمُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْثَرُ ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ ، ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ أَكْثَرُ . وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّ يُكْثِرَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ : " اللَّهُمَّ ، إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ ، فَاعْفُ عَنِّي " ; لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :

حَدَّثَنَا يَزِيدُ - هُوَ ابْنُ هَارُونَ - ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ - وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ - ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَمَا أَدْعُو ؟ قَالَ : " قُولِي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ ، فَاعْفُ عَنِّي " .

[ ص: 452 ]

وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ، مِنْ طَرِيقِ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ : " قُولِي : اللَّهُمَّ ، إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ ، فَاعْفُ عَنِّي " .

وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ ، ثُمَّ قَالَ : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ " . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ ، وَقَالَ : " هَذَا صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ " وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ : " قُولِي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ ، فَاعْفُ عَنِّي " .

ذُكِرَ أَثَرٌ غَرِيبٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ ، يَتَعَلَّقُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ :

حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَطْوَانِيُّ ، حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَعِيدٍ - يَعْنِي الرَّاسِبِيَّ - ، عَنْ هِلَالٍ أَبِي جَبَلَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ السَّلَامِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى عَلَى حَدِّ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ ، فَهِيَ عَلَى حَدِّ هَوَاءِ الدُّنْيَا وَهَوَاءِ الْآخِرَةِ ، عُلُوُّهَا فِي الْجَنَّةِ ، وَعُرُوقُهَا وَأَغْصَانُهَا مِنْ تَحْتِ الْكُرْسِيِّ ، فِيهَا مَلَائِكَةٌ لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَغْصَانِهَا ، فِي كُلِّ مَوْضِعِ شَعْرَةٍ مِنْهَا مَلَكٌ . وَمَقَامُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فِي وَسَطِهَا ، فَيُنَادِي اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَلَكٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ ، فَيَنْزِلُونَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ ، فَلَا تَبْقَى بُقْعَةٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا وَعَلَيْهَا مَلَكٌ ، إِمَّا سَاجِدٌ وَإِمَّا قَائِمٌ ، يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَنِيسَةٌ أَوْ بَيْعَةٌ ، أَوْ بَيْتُ نَارٍ أَوْ وَثَنٍ ، أَوْ بَعْضُ أَمَاكِنِكُمُ الَّتِي تَطْرَحُونَ فِيهَا الْخَبَثَ ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ سَكْرَانٌ ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ مُسْكِرٌ ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ وَثَنٌ مَنْصُوبٌ ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ جَرَسٌ مُعَلَّقٌ ، أَوْ مَبْوَلَةٌ ، أَوْ مَكَانٌ فِيهِ كَسَاحَةِ الْبَيْتِ ، فَلَا يَزَالُونَ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وَجِبْرِيلُ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا صَافَحَهُ ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ مَنِ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ وَرَقَّ قَلْبُهُ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُصَافَحَةِ جِبْرِيلَ .

وَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُ مَنْ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِوَاحِدَةٍ ، وَنَجَا مِنَ النَّارِ بِوَاحِدَةٍ ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِوَاحِدَةٍ . فَقُلْنَا لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ : يَا أَبَا إِسْحَاقَ ، صَادِقًا ؟ فَقَالَ كَعْبٌ وَهَلْ يَقُولُ : " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا كُلُّ صَادِقٍ ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَتَثْقُلُ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ ، حَتَّى كَأَنَّهَا عَلَى ظَهْرِهِ جَبَلٌ ، فَلَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ هَكَذَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ . فَأَوَّلُ مَنْ يَصْعَدُ جِبْرِيلُ حَتَّى يَكُونَ فِي وَجْهِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى مِنَ الشَّمْسِ ، فَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ - [ ص: 453 ] وَلَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ ، لَا يَنْشُرُهُمَا إِلَّا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ - فَتَصِيرُ الشَّمْسُ لَا شُعَاعَ لَهَا ، ثُمَّ يَدْعُو مَلَكًا فَيَصْعَدُ ، فَيَجْتَمِعُ نُورُ الْمَلَائِكَةِ وَنُورُ جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ ، فَلَا تَزَالُ الشَّمْسُ يَوْمَهَا ذَلِكَ مُتَحَيِّرَةً ، فَيُقِيمُ جِبْرِيلُ وَمَنْ مَعَهُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَوْمَهَمْ ذَلِكَ ، فِي دُعَاءٍ وَرَحْمَةٍ وَاسْتِغْفَارٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وَلِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ احْتِسَابًا ، وَدُعَاءٍ لِمَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ إِنْ عَاشَ إِلَى قَابِلٍ صَامَ رَمَضَانَ لِلَّهِ . فَإِذَا أَمْسَوْا دَخَلُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ، فَيَجْلِسُونَ حِلَقًا [ حِلَقًا ] فَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِمْ مَلَائِكَةُ سَمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ رَجُلٍ رَجُلٍ ، وَعَنِ امْرَأَةٍ امْرَأَةٍ فَيُحَدِّثُونَهُمْ حَتَّى يَقُولُوا : مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ ؟ وَكَيْفَ وَجَدْتُمُوهُ الْعَامَ ؟ فَيَقُولُونَ : وَجَدْنَا فُلَانًا عَامَ أَوَّلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مُتَعَبِّدًا وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ مُبْتَدِعًا ، وَوَجَدْنَا فُلَانًا مُبْتَدِعًا وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ عَابِدًا قَالَ : فَيَكُفُّونَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِذَلِكَ ، وَيَقْبَلُونَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِهَذَا ، وَيَقُولُونَ : وَجَدْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا يَذْكُرَانِ اللَّهَ ، وَوَجَدْنَا فُلَانًا رَاكِعًا ، وَفُلَانًا سَاجِدًا ، وَوَجَدْنَاهُ تَالِيًا لِكِتَابِ اللَّهِ . قَالَ : فَهُمْ كَذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ ، حَتَّى يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ ، فَفِي كُلِّ سَمَاءٍ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، حَتَّى يَنْتَهُوا مَكَانَهُمْ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، فَتَقُولُ لَهُمْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى : يَا سُكَّانِي ، حَدِّثُونِي عَنِ النَّاسِ وَسَمُّوهُمْ لِي . فَإِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا ، وَإِنِّي أُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ . فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ لَهَا ، وَيَحْكُونَ لَهَا الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ . ثُمَّ تُقْبِلُ الْجَنَّةُ عَلَى السِّدْرَةِ فَتَقُولُ : أَخْبِرِينِي بِمَا أَخْبَرَكِ سُكَّانُكِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ . فَتُخْبِرُهَا ، قَالَ : فَتَقُولُ الْجَنَّةُ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ ، اللَّهُمَّ عَجِّلْهُمْ إِلَيَّ ، فَيَبْلُغُ جِبْرِيلُ مَكَانَهَ قَبْلَهُمْ ، فَيُلْهِمُهُ اللَّهُ فَيَقُولُ : وَجَدْتُ فُلَانًا سَاجِدًا فَاغْفِرْ لَهُ . فَيَغْفِرُ لَهُ ، فَيَسْمَعُ جِبْرِيلُ جَمِيعَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيَقُولُونَ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ ، وَمَغْفِرَتُهُ لِفُلَانٍ ، وَيَقُولُ يَا رَبِّ ، وَجَدْتُ عَبْدَكَ فُلَانًا الَّذِي وَجَدْتُهُ عَامَ أَوَّلَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْعِبَادَةِ ، وَوَجَدْتُهُ الْعَامَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَتَوَلَّى عَمَّا أُمِرَ بِهِ . فَيَقُولُ اللَّهُ : يَا جِبْرِيلُ ، إِنْ تَابَ فَأَعْتَبَنِي قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِثَلَاثِ سَاعَاتٍ غَفَرْتُ لَهُ . فَيَقُولُ جِبْرِيلُ : لَكَ الْحَمْدُ إِلَهِي ، أَنْتَ أَرْحَمُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ بِعِبَادِكَ مِنْ عِبَادِكَ بِأَنْفُسِهِمْ ، قَالَ : فَيَرْتَجُّ الْعَرْشُ وَمَا حَوْلَهُ ، وَالْحُجُبُ وَالسَّمَاوَاتُ وَمِنْ فِيهِنَّ ، تَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ .

قَالَ : وَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ إِذَا أَفْطَرَ بَعْدَ رَمَضَانَ أَلَّا يَعْصِيَ اللَّهَ ، دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا حِسَابٍ .

آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ " لَيْلَةِ الْقَدْرِ " [ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ ] .
المصدر اسلام ويب تفسير بن كثير



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابعنا على الفيسبوك

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية


جميع الحقوق محفوظة TH3 Professional security ©2010-2013 | جميع المواد الواردة في هذا الموقع حقوقها محفوظة لدى ناشريها ، نقل بدون تصريح ممنوع . Privacy-Policy| اتفاقية الاستخدام|تصميم : ألوان بلوجر