الخميس، 11 أبريل 2013

الدُّعَاءُ وَالْقَدَرُ ..-- للعلامه بن القيم

الدُّعَاءُ وَالْقَدَرُ 
ص: 16 ] وَهَاهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ : 

أَنَّ الْمَدْعُوَّ بِهِ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وُقُوعِهِ ، دَعَا بِهِ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَقَعْ ، سَوَاءٌ سَأَلَهُ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ . 

فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ هَذَا السُّؤَالِ ، فَتَرَكَتِ الدُّعَاءَ وَقَالَتْ : لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَهَؤُلَاءِ مَعَ فَرْطِ جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ ، مُتَنَاقِضُونَ فَإِنَّ طَرْدَ مَذْهَبِهِمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ : 

إِنْ كَانَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ قَدْ قُدِّرَا لَكَ فَلَابُدَّ مِنْ وُقُوعِهِمَا ، أَكَلْتَ أَوْ لَمْ تَأْكُلْ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرَا لَمْ يَقَعَا أَكَلْتَ أَوْ لَمْ تَأْكُلْ . 

وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قُدِّرَ لَكَ فَلَابُدَّ مِنْهُ ، وَطِئْتَ الزَّوْجَةَ أَوِ الْأَمَةَ أَوْ لَمْ تَطَأْ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَكُنْ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّزْوِيجِ وَالتَّسَرِّي ، وَهَلُمَّ جَرَّا . 

فَهَلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ أَوْ آدَمِيٌّ ؟ بَلِ الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ مَفْطُورٌ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَحَيَاتُهُ ، فَالْحَيَوَانَاتُ أَعْقَلُ وَأَفْهَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا . 

وَتَكَايَسَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ : الِاشْتِغَالُ بِالدُّعَاءِ مِنْ بَابِ التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهِ الدَّاعِيَ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمَطْلُوبِ بِوَجْهٍ مَا وَلَا فَرْقَ عِنْدَ هَذَا الْمُتَكَيِّسِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْإِمْسَاكِ عَنْهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فِي التَّأْثِيرِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ ، وَارْتِبَاطُ الدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ بِهِ كَارْتِبَاطِ السُّكُوتِ وَلَا فَرْقَ . 

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى أَكْيَسُ مِنْ هَؤُلَاءِ : بَلِ الدُّعَاءُ عَلَامَةٌ مُجَرَّدَةٌ نَصَبَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَارَةً عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ ، فَمَتَى وُفِّقَ الْعَبْدُ لِلدُّعَاءِ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لَهُ وَأَمَارَةً عَلَى أَنَّ حَاجَتَهُ قَدِ انْقَضَتْ ، وَهَذَا كَمَا إِذَا رَأَيْتَ غَيْمًا أَسْوَدَ بَارِدًا فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُمْطِرُ . 

قَالُوا : وَهَكَذَا حُكْمُ الطَّاعَاتِ مَعَ الثَّوَابِ ، وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي مَعَ الْعِقَابِ ، هِيَ أَمَارَاتٌ مَحْضَةٌ لِوُقُوعِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا أَنَّهَا أَسْبَابٌ لَهُ . 

وَهَكَذَا عِنْدَهُمُ الْكَسْرُ مَعَ الِانْكِسَارِ ، وَالْحَرْقُ مَعَ الْإِحْرَاقِ ، وَالْإِزْهَاقُ مَعَ الْقَتْلِ لَيْسَ 

ص: 17 ] شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ سَبَبًا الْبَتَّةَ ، وَلَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ، إِلَّا مُجَرَّدُ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ ، لَا التَّأْثِيرُ السَّبَبِيُّ وَخَالَفُوا بِذَلِكَ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ ، وَالشَّرْعَ وَالْفِطْرَةَ ، وَسَائِرَ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ ، بَلْ أَضْحَكُوا عَلَيْهِمُ الْعُقَلَاءَ . 

وَلِلصَّوَابِ أَنَّ هَاهُنَا قِسْمًا ثَالِثًا ، غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمَقْدُورَ قُدِّرَ بِأَسْبَابٍ ، وَمِنْ أَسْبَابِهِ الدُّعَاءُ ، فَلَمْ يُقَدَّرْ مُجَرَّدًا عَنْ سَبَبِهِ ، وَلَكِنْ قُدِّرَ بِسَبَبِهِ ، فَمَتَى أَتَى الْعَبْدُ بِالسَّبَبِ ، وَقَعَ الْمَقْدُورُ ، وَمَتَى لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ انْتَفَى الْمَقْدُورُ ، وَهَذَا كَمَا قُدِّرَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقُدِّرَ الْوَلَدُ بِالْوَطْءِ ، وَقُدِّرَ حُصُولُ الزَّرْعِ بِالْبَذْرِ ، وَقُدِّرَ خُرُوجُ نَفْسِ الْحَيَوَانِ بِذَبْحِهِ ، وَكَذَلِكَ قُدِّرَ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِالْأَعْمَالِ ، وَدُخُولُ النَّارِ بِالْأَعْمَالِ ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْحَقُّ ، وَهَذَا الَّذِي حُرِمَهُ السَّائِلُ وَلَمْ يُوَفَّقْ لَهُ . 

الدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ 

وَحِينَئِذٍ فَالدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ ، فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ : لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ ، كَمَا لَا يُقَالُ : لَا فَائِدَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَجَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْمَالِ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ أَنْفَعَ مِنَ الدُّعَاءِ ، وَلَا أَبْلَغَ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ . 

عُمَرُ يَسْتَنْصِرُ بِالدُّعَاءِ 

وَلَمَّا كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَعْلَمَ الْأُمَّةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْقَهَهُمْ فِي دِينِهِ ، كَانُوا أَقْوَمَ بِهَذَا السَّبَبِ وَشُرُوطِهِ وَآدَابِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ . 

وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَنْصِرُ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِ ، وَكَانَ أَعْظَمَ جُنْدَيْهِ ، وَكَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ : لَسْتُمْ تُنْصَرُونَ بِكَثْرَةٍ ، وَإِنَّمَا تُنْصَرُونَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَكَانَ يَقُولُ : إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ ، وَلَكِنْ هَمَّ الدُّعَاءِ ، فَإِذَا أُلْهِمْتُمُ الدُّعَاءَ ، فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ ، وَأَخَذَ الشَّاعِرُ هَذَا الْمَعْنَى فَنَظَمَهُ فَقَالَ : 


لَوْ لَمْ تُرِدْ نَيْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ مِنْ جُودِ كَفَّيْكَ مَا عَلَّمْتَنِي الطَّلَبَا


فَمَنْ أُلْهِمَ الدُّعَاءَ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْإِجَابَةُ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ سُورَةُ غَافِرٍ : 60 ] وَقَالَ : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ 

ص: 18 ] وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ 

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِضَاءَهُ فِي سُؤَالِهِ وَطَاعَتِهِ ، وَإِذَا رَضِيَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَكُلُّ خَيْرٍ فِي رِضَاهُ ، كَمَا أَنَّ كُلَّ بَلَاءٍ وَمُصِيبَةٍ فِي غَضَبِهِ . 

وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ أَثَرًا [ أَنَا اللَّهُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ، إِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ ، وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي مُنْتَهًى وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ ، وَلَعْنَتِي تَبْلُغُ السَّابِعَ مِنَ الْوَلَدِ ] . 

وَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالْفِطْرَةُ وَتَجَارِبُ الْأُمَمِ - عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَمِلَلِهَا وَنِحَلِهَا - عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِكُلِّ خَيْرٍ ، وَأَضْدَادَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِكُلِّ شَرٍّ ، فَمَا اسْتُجْلِبَتْ نِعَمُ اللَّهِ ، وَاسْتُدْفِعَتْ نِقْمَتُهُ ، بِمِثْلِ طَاعَتِهِ ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ . 

ارْتِبَاطُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِالْعَمَلِ 

وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حُصُولَ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَحُصُولَ السُّرُورِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْأَعْمَالِ ، تُرَتُّبَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ ، وَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ ، وَالْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ مَوْضِعٍ . 

فَتَارَةً يُرَتِّبُ الْحُكْمَ الْخَبَرِيَّ الْكَوْنِيَّ وَالْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 166 ] . 

وَقَوْلِهِ : فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 55 ] . 

وَقَوْلِهِ : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا الْمَائِدَةِ : 83 ] . 

وَقَوْلِهِ : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الْأَحْزَابِ : 35 ] . 

وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا . 

ص: 19 ] وَتَارَةً يُرَتِّبُهُ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 29 ] . 

وَقَوْلِهِ : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ التَّوْبَةِ : 11 ] . 

وَقَوْلِهِ : وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا سُورَةُ الْجِنِّ : 16 ] . 

وَنَظَائِرِهِ . 

وَتَارَةً يَأْتِي بِلَامِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ : لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ سُورَةُ ص : 29 ] . 

وَقَوْلِهِ : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 143 ] . 

وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ كَيِ الَّتِي لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ : كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ سُورَةُ الْحَشْرِ : 77 ] . 

وَتَارَةً يَأْتِي بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 182 ] . 

وَقَوْلِهِ : بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 105 ] . 

وَقَوْلِهِ : بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ، وَقَوْلِهِ : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 112 ] . 

وَتَارَةً يَأْتِي بِالْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ ظَاهِرًا أَوْ مَحْذُوفًا ، كَقَوْلِهِ : فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 282 ] . 

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 172 ] 

ص: 20 ] وَقَوْلِهِ : أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 156 ] ، أَيْ : كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا . 

وَتَارَةً يَأْتِي بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَقَوْلِهِ : فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا سُورَةُ الشَّمْسِ : 14 ] . 

وَقَوْلِهِ : فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً سُورَةُ الْحَاقَّةِ : 10 ] . 

وَقَوْلِهِ : فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ الْمُؤْمِنُونَ : 48 ] . 

وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ [ لَمَّا ] الدَّالَّةِ عَلَى الْجَزَاءِ ، كَقَوْلِهِ : فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 55 ] . 

وَنَظَائِرِهِ . 

وَتَارَةً يَأْتِي بِإِنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ ، كَقَوْلِهِ : إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ : 90 ] . 

وَقَوْلِهِ فِي ضَوْءِ هَؤُلَاءِ : إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ الْأَنْبِيَاءِ : 77 ] . 

وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ " لَوْلَا " ، الدَّالَّةِ عَلَى ارْتِبَاطِ مَا قَبْلَهَا بِمَا بَعْدَهَا ، كَقَوْلِهِ : فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 143 - 144 ] . 

وَتَارَةً يَأْتِي " بِلَوِ " الدَّالَّةِ عَلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ سُورَةُ النِّسَاءِ : 66 ] . 

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ صَرِيحٌ فِي تُرَتُّبِ الْجَزَاءِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْأَحْكَامِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْأَمْرِيَّةِ عَلَى الْأَسْبَابِ ، بَلْ تَرْتِيبِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَصَالِحِهِمَا وَمَفَاسِدِهِمَا عَلَى الْأَسْبَابِ وَالْأَعْمَالِ . 

وَمَنْ تَفَقَّهَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَأَمَّلَهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ انْتَفَعَ بِهَا غَايَةَ النَّفْعِ ، وَلَمْ يَتَّكِلْ عَلَى 

ص: 21 ] الْقَدَرِ جَهْلًا مِنْهُ ، وَعَجْزًا وَتَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً ، فَيَكُونُ تَوَكُّلُهُ عَجْزًا ، وَعَجْزُهُ تَوَكُّلًا ، بَلِ الْفَقِيهُ كُلَّ الْفِقْهِ الَّذِي يَرُدُّ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ ، وَيَدْفَعُ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ ، وَيُعَارِضُ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ ، بَلْ لَا يُمْكِنُ لِإِنْسَانٍ أَنْ يَعِيشَ إِلَّا بِذَلِكَ ، فَإِنَّ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَالْبَرْدَ وَأَنْوَاعَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَحَاذِيرِ هِيَ مِنَ الْقَدَرِ . 

وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ سَاهُونَ فِي دَفْعِ هَذَا الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ ، وَهَكَذَا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ يَدْفَعُ قَدَرَ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِقَدَرِ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فَهَذَا وِزَانُ الْقَدَرِ الْمُخَوِّفِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يُضَادُّهُ سَوَاءٌ ، فَرَبُّ الدَّارَيْنِ وَاحِدٌ وَحِكْمَتُهُ وَاحِدَةٌ لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَلَا يُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَشْرَفِ الْمَسَائِلِ لِمَنْ عَرَفَ قَدْرَهَا ، وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . 

لَكِنْ يَبْقَى عَلَيْهِ أَمْرَانِ بِهِمَا تَتِمُّ سَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ . 

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْرِفَ تَفَاصِيلَ أَسْبَابِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ ، وَيَكُونَ لَهُ بَصِيرَةٌ فِي ذَلِكَ بِمَا يُشَاهِدُهُ فِي الْعَالَمِ ، وَمَا جَرَّبَهُ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ ، وَمَا سَمِعَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . 

التَّارِيخُ تَفْصِيلٌ لِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ 

وَمِنْ أَنْفَعِ مَا فِي ذَلِكَ تُدَبُّرُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَفِيلٌ بِذَلِكَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ ، وَفِيهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا مُفَصَّلَةً مُبَيَّنَةً ، ثُمَّ السُّنَّةِ ، فَإِنَّهَا شَقِيقَةُ الْقُرْآنِ ، وَهِيَ الْوَحْيُ الثَّانِي ، وَمَنْ صَرَفَ إِلَيْهِمَا عِنَايَتَهُ اكْتَفَى بِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا ، وَهُمَا يُرِيَانِكَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَأَسْبَابَهُمَا ، حَتَّى كَأَنَّكَ تُعَايِنُ ذَلِكَ عِيَانًا ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَ الْأُمَمِ ، وَأَيَّامَ اللَّهِ فِي أَهْلِ طَاعَتِهِ وَأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ ، طَابَقَ ذَلِكَ مَا عَلِمْتَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَرَأَيْتَهُ بِتَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَوَعَدَ بِهِ ، وَعَلِمْتَ مِنْ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ مَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ ، وَأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ، وَأَنَّ اللَّهَ يُنْجِزُ وَعْدَهُ لَا مَحَالَةَ ، فَالتَّارِيخُ تَفْصِيلٌ لِجُزْئِيَّاتِ مَا عَرَّفَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْكُلِّيَّةِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابعنا على الفيسبوك

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية


جميع الحقوق محفوظة TH3 Professional security ©2010-2013 | جميع المواد الواردة في هذا الموقع حقوقها محفوظة لدى ناشريها ، نقل بدون تصريح ممنوع . Privacy-Policy| اتفاقية الاستخدام|تصميم : ألوان بلوجر