( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ( 8 ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 ) )
النِّفَاقُ : هُوَ إِظْهَارُ الْخَيْرِ وَإِسْرَارُ الشَّرِّ ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ : اعْتِقَادِيٌّ ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُدُ صَاحِبُهُ فِي النَّارِ ، وَعَمَلِيٌّ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : الْمُنَافِقُ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ ، وَسِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ ، وَمَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ ، وَمَشْهَدُهُ مَغِيبَهُ .
وَإِنَّمَا نَزَلَتْ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ ، بَلْ كَانَ خِلَافُهُ ، مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُظْهِرَ الْكُفْرَ مُسْتَكْرَهًا ، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنٌ ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ بِهَا الْأَنْصَارُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَكَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ عَلَى طَرِيقَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ، وَبِهَا الْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى طَرِيقَةِ أَسْلَافِهِمْ ، وَكَانُوا ثَلَاثَ قَبَائِلَ : بَنُو قَيْنُقَاعَ حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ ، وَبَنُو النَّضِيرِ ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، وَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ [ ص: 177 ] مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ قَبِيلَتَيِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ،وَقَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ نِفَاقٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدُ شَوْكَةٌ تُخَافُ ، بَلْ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَادَعَ الْيَهُودَ وَقَبَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَوَالَيِ الْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ الْعُظْمَى وَأَظْهَرَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ ، وَأَعْلَى الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ ، وَكَانَ رَأْسًا فِي الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ مِنَ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَ سَيِّدَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ ، فَجَاءَهُمُ الْخَيْرُ وَأَسْلَمُوا ، وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ ، فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ قَالَ : هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ ، فَأَظْهَرَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَدَخَلَ مَعَهُ طَوَائِفُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَنِحْلَتِهِ ، وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَمِنْ ثَمَّ وُجِدَ النِّفَاقُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ ، فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ مُكْرَهًا ، بَلْ يُهَاجِرُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ ، وَوَلَدَهُ ، وَأَرْضَهُ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) يَعْنِي : الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ .
وَكَذَا فَسَّرَهَا بِالْمُنَافِقِينَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ .
وَلِهَذَا نَبَّهَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ أَمْرِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ فَسَادٌ عَرِيضٌ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُمْ ، وَمِنَ اعْتِقَادِ إِيمَانِهِمْ ، وَهُمْ كُفَّارٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَهَذَا مِنَ الْمَحْذُورَاتِ الْكِبَارِ ، أَنْ يُظَنَّ بِأَهْلِ الْفُجُورِ خَيْرٌ ، فَقَالَ تَعَالَى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) أَيْ : يَقُولُونَ ذَلِكَ قَوْلًا لَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ آخَرُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ) [الْمُنَافِقُونَ : 1 ] أَيْ : إِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِذَا جَاءُوكَ فَقَطْ ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ وَلِهَذَا يُؤَكِّدُونَ فِي الشَّهَادَةِ بِإِنْ وَلَامِ التَّأْكِيدِ فِي خَبَرِهَا ؛ كَمَا أَكَّدُوا قَوْلَهُمْ : ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، كَمَا أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي شَهَادَتِهِمْ ، وَفِي خَبَرِهِمْ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ ، بِقَوْلِهِ : ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) [ الْمُنَافِقُونَ : 1 ] ، وَبِقَوْلِهِ ( وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أَيْ : بِإِظْهَارِهِمْ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ مَعَ إِسْرَارِهِمُ الْكُفْرَ ، يَعْتَقِدُونَ بِجَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ ذَلِكَ نَافِعُهُمْ عِنْدَهُ ، وَأَنَّهُ يَرُوجُ عَلَيْهِ كَمَا يَرُوجُ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) [ الْمُجَادَلَةِ : 18 ] ؛ وَلِهَذَا قَابَلَهُمْ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) يَقُولُ : وَمَا يَغُرُّونَ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا وَلَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ، وَمَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) [ النِّسَاءِ : 142 ] .
وَمِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ : " وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ " ، وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ .
[ ص: 178 ]
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخَادِعًا ، وَهُوَ لَا يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ خِلَافَ مَا هُوَ لَهُ مُعْتَقِدٌ إِلَّا تَقِيَّةً ؟
قِيلَ : لَا تَمْتَنِعُ الْعَرَبُ أَنْ تُسَمِّيَ مَنْ أَعْطَى بِلِسَانِهِ غَيْرَ الَّذِي فِي ضَمِيرِهِ تَقِيَّةً ، لِيَنْجُوَ مِمَّا هُوَ لَهُ خَائِفٌ ، مُخَادِعًا ، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ ، سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ تَقِيَّةً ، مِمَّا تَخَلَّصَ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ وَالْعَذَابِ الْعَاجِلِ ، وَهُوَ لِغَيْرِ مَا أَظْهَرَ ، مُسْتَبْطِنٌ ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ - وَإِنْ كَانَ خِدَاعًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا - فَهُوَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ خَادِعٌ ، لِأَنَّهُ يُظْهِرُ لَهَا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِهَا أَنَّهُ يُعْطِيهَا أُمْنِيَّتَهَا ، وَيَسْقِيهَا كَأْسَ سُرُورِهَا ، وَهُوَ مُوَرِّدُهَا حِيَاضَ عَطَبِهَا ، وَمُجَرِّعُهَا بِهَا كَأْسَ عَذَابِهَا ، وَمُزِيرُهَا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ مَا لَا قِبَلَ لَهَا بِهِ ، فَذَلِكَ خَدِيعَتُهُ نَفْسَهُ ، ظَنًّا مِنْهُ - مَعَ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا فِي أَمْرِ مَعَادِهَا - أَنَّهُ إِلَيْهَا مُحْسِنٌ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) إِعْلَامًا مِنْهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِإِسَاءَتِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِي إِسْخَاطِهِمْ عَلَيْهَا رَبَّهُمْ بِكُفْرِهِمْ ، وَشَكِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ ، غَيْرَ شَاعِرِينَ وَلَا دَارِينَ ، وَلَكِنَّهُمْ عَلَى عَمْيَاءَ مَنْ أَمْرِهِمْ مُقِيمُونَ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ ، فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْمُبَارَكِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (يُخَادِعُونَ اللَّهَ ) قَالَ : يُظْهِرُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْرِزُوا بِذَلِكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَقَالَ سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) نَعْتُ الْمُنَافِقِ عِنْدَ كَثِيرٍ : خَنِعُ الْأَخْلَاقِ ، يُصَدِّقُ بِلِسَانِهِ وَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَيُخَالِفُ بِعَمَلِهِ ، يُصْبِحُ عَلَى حَالٍ وَيُمْسِي عَلَى غَيْرِهِ ، وَيُمْسِي عَلَى حَالٍ وَيُصْبِحُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَيَتَكَفَّأُ تَكْفُّؤَ السَّفِينَةِ ، كُلَّمَا هَبَّتْ رِيحٌ هَبَّ مَعَهَا .
والله اعلم
تفسير بن كثير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق